لا يزال تاريخ ميدلت، لاسيما في جوانبه الثقافية والسوسيو-أنثروبولوجية،
مجالاً خصبـًا للبحث والإثراء، خاصة عند تناوله للجانب المتعلق بالعلاقة بين
الإنسان والمجال، وحين يؤرخ لتأثيرات تلك العلاقة وما ينجم عنها على مستوى البناء
الثقافي. ومن مجالات التفاعل بين الإنسان والمجال، نجد الأضرحة باعتبارها
جزءًا مهما من المكونات التي تؤثث هذا المجال.
فمنطقة ميدلت كجميع أرجاء المغرب لا تخرج عن المقولة القائلة: «إذا
كان المشرق أرض الرسل والأنبياء، فإن المغرب أرض الصالحين والأولياء»، فهي
تحتوي على ما يزيد على عشر أضرحة متناثرة على طول واد أوطاط من منابعه حتى مصبه في
واد ملوية، ويظل أشهرها ضريح سيدي عثمان المترسخ في الذاكرة الجماعية لأجيال حتى
ثمانينيات القرن الماضي، وضريح سيدي سعيد الذي ارتبط اسمه بالسد وبالمحطة
الهيدروليكية، وضريح سيدي المنضري وسيدي جعفر ومولاي أسماعيل ومولاي عبد السلام
ومولاي يوسف ومولاي الدخيسي ومولاي الحبيب ومولاي عبد القادر الجيلالي/الجيلاني
إضافة إلى نساء صالحات كلالة خديجة ولالة ميمونة دون أن ننسى مول الكاف صالح
الطائفة اليهودية.
إن الهدف من إثارة الموضوع، فكري بالأساس يرمي إلى محاولة قراءة
الأضرحة، كتاريخ، والحفر العميق في امتداداتها، بعيدا عن أي نظرة سياسية أو دينية،
إنه تنقيب في الزمن الضرائحي حسب تعبير الدكتور العطري عله يضيء مناطق الظل في
تاريخ المنطقة. المقالة دعوة للتفكير وفتح حلقة للنقاش بهدف الفهم والإجابة عن
تساؤلات من قبيل؛ ما هي فترة ظهور هذه الأضرحة بالمنطقة؟ وما سيرة "الأولياء"
المدفونين والزاويا أو الطرائق الصوفية التي ينتمون إليها؟ ما هي ملامح الحياة
الاجتماعية خلال فترة ازدهار الطقوس والممارسات المتعلقة بالضريح؟
الإجابة على هذه التساؤلات سيمكننا من فهم تحركات المجموعات
البشرية التي استوطنت هذا المجال، كما يتيح لنا رسم خط زمني للمنطقة.
الضريح يطلق على البناء المشيد على قبر الولي، ويتميز
ببساطة الشكل والتصميم عادة، ولا يرقى في شكله المعماري للمسجد وتعلو الضريح في الغالب
قُبّة، أما الولي حسب التعاريف المتداولة، هو العارف بالله وبصفاته،
المواظب على الطّاعات، المُتجنب للمعاصي، المُعرِض عن الانهماك في اللّذات
والشهوات المباحة.
إن معظم الأضرحة الموجودة حاليًا
ارتبطت بأولياء الزوايا الصوفية المنتشرة بالمغرب، والتي ظهرت في حقب مختلفة، ويرى
"إدموند دوتي" في كتابه الصُّلحاء أن زيارة الأولياء نشأت في القرن 16 بطرق لافتة للنظر،
على حين غرة بدافع ديني لم يستطع أي أحد من المؤرخين معرفة طبيعة تكونه كرد فعل
على انتصارات المسحيين في الأندلس[1].
في حين يُرجع البعض هذا الانتشار إلى حقب عرفت فيها البلاد ظروفًا قاسية، تمثلت في
الفراغات السياسية والأمنية، وتوالي الكوارث الطبيعية من مجاعات وأوبئة وجفاف وفيضانات،
الأمر الذي قاد الزوايا إلى أن تلعب أدوارًا اجتماعية وسياسية طلائعية غير وظيفتها
الدينية الأصلية. ويعتقد البعض الأخر أن انتشار الزوايا كان بفضل أشخاص قاموا قبل
ذلك بزيارات إلى المشرق العربي قصد تأدية مناسك الحج، وعند رجوعهم كرسوا جهودهم
للوعظ والإرشاد ونشر الإسلام والدفاع عنه، ثم تكونت حولهم مجموعات من المتعبدين
والنساك الذين انخرطوا تلقائيا في تنظيمات ما لبثت أن تحولت إلى مؤسسات قائمة
الذات، تنتسب إلى سيدي (فلان).
يُعتبر ضريح سيدي عثمان الواقع قرب قصر "بوزملاّ" بميدلت،
أشهر الأضرحة بالمنطقة، فإدا كان نفود بعض الأولياء لا يتعدى القرية المدفونين
فيها، فإن هذا الضريح يصل صداه إلى قبائل متعددة في أعالي ملوية، فمن يكون سيدي
عثمان هذا؟ ومتى عاش ومتى دفن؟ وهل عاش فعلا هناك؟ أم أن قدماه لم تطأ المنطقة،
بل بني الضريح للتبرك به كما هو الحال لضريح مولاي عبد القادر الجيلالي/الجيلاني
دفين العراق والذي أصبح حسب تعبير "إدموند دوتي" وليا صالحا وطنيا في
المغرب الكبير، نجد ضريحا له كذلك بميدلت تم بناءه، حسب الرواية الشفوية، في
الفترة الاستعمارية عند إحداث مقبرة مولاي عبد القادر لدفن الجنود المسلمين
والجزائريين على الخصوص المقاتلين في صفوف القوات الفرنسية.
من الزوايا المؤثرة في المنطقة، الزاوية
الدلائية وحسب محمد حجي فالدلائيون صنهاجيون من قبيلة "مجّاط" الدين
كانوا مستقرين في أعالي ملوية بين ميدلت وتونفيت قبل الانتقال إلى "الدّلا"
وقد أسست زاويتهم سنة 1566م على يد أبوبكر بن محمد بن سعيد الدلائي. هناك كذلك الزاوية العياشية أو
الحمزاوية، والتي أسست
على يد محمد بن أبي بكر العياشي، وأدى التقارب
العياشي الدلائي إلى انتقال الأسرة
العياشية إلى فاس إبان حكم المولى الرشيد ، لتعود إلى موطنها بأمر من المولى إسماعيل لتنصرف إلى الدور الديني والعلمي الخالص
خاصة مع الشيخ عبد الجبار بن أبي بكر العياشي ثم أبي سالم عبد الله بن محمد بن أبي
بكر الذي عمل على تطوير الزاوية وأعطاها نفسا جديدا جعل المنطقة منفتحة على عالم واسع مرتبطة بعلاقات متنوعة
وعلى طول مرحلة مشيخته ومشيخة ابنه سيدي حمزة، غذت الزاوية قبلة ومقصدا للزوار والطلبة وأيضا للعلماء.
ولا يجب إغفال الزاوية الدرقاوية رغم محدودية تأثيرها بمنطقة أوطاط وبالضبط في قصر
تشاويت.
في ظل افتقارنا لوثائق تعرف بحياة سيدي عثمان، تبقى الممارسات
والطقوس الضرائحية الممارسة خلال الاحتفالات بالموسم مصدرا مهما للمعلومات، فمن
المعروف أن طقوس الاحتفال بسيدي عثمان تعود للطريقة الصوفية العيساوية، نسبة لمحمد
بنعيسى الملقب ب " الشيخ الكامل"، الذي عاش بمدينة مكناس وبها توفي سنة
1526م، الطريقة العيساوية من أبرز المذاهب الصوفية التي ظهرت
في العصر الحديث، خلال القرن السادس عشر، على يد الولي محمد الهادي بن عيسى، وهي
امتداد للطريقة الجزولية الشاذلية التي ظهرت خلال القرن الثالث عشر على يد الإمام
أبي الحسن الشاذلي. تُعنى بالذكر وتلاوة القرآن وسرد الأمداح والصلوات على رسول الله، وتؤدى
الأناشيد والألحان بالاعتماد على الدقات بواسطة آلات إيقاعية، هذا النسيج الموسيقي
له وقع خاص على المستمعين، الذين قد يُحدث عند بعضهم انفعالا خاصا. تقام حفلات عيساوة
في عيد المولد النبوي، ومن الطقوس العيساوية هناك الجدبة أو ما يعرف بالحضرة كمكون اساسي وهي تشبه
الشطحات الصوفية ويتم فيها المناداة على الاولياء وشيوخ الطائفة المتوفين وفي اغلب
الاحيان تكون اغماءات، هذا الطقس يزيغ وتمارس فيه أفعال لامجال الآن للخوض وإبداء
الرأي فيها لأن ما يهمنا هو تدوين الذاكرة الجماعية، وندكر منها تقديم معزة كقربان
"لِلْجْوَادْ" او "صْحَابْ المْكَانْ"، المعزة خلال مراحلة من
الطقوس تقدف في السماء ويتم تفريق اطرافها وهي طائرة، وإراقة دمائها عن طريق الجر
والشد، كما يقوم بعض المريدين بضرب أجسادهم بآلات حادة و شرب المياه المغلاة.
يُرجع البعض ظهور موسم الولي سيدي عثمان وتشييد هذا الضريح
بالمنطقة، كان في القرن السابع عشر إبّان حكم السلطان المولى إسماعيل (1672 – 1727
م)، خاصة في فترة مقامه بالمنطقة لتهدئة الأوضاع وتأمين الطريق التجاري، والمعروف
أن معقل الطريقة العيساوية هو مكناسة الزيتون عاصمة حكمه، لكن تواجد ضريح أخر داخل
قصر بوزملا يحمل اسم المولى إسماعيل والذي يحلف فيه اليمين[2]
الأقرب لافتراض تشييده عهد المولى إسماعيل،
أما بخصوص استقرار سيدي عثمان
بأوطاط فلا دليل لدينا يؤكد أو ينفي، هذه الرواية تجعلنا نميل للقول أن سيدي عثمان
هذا عاش بالمنطقة إبان حلول قبائل أيت إزدك بالمنطقة منتصف القرن الثامن عشر فلكل
قبيلة صلحائها، إلا أنها تبقى مجرد فرضية تحتاج لمزيد من التمحيص.
لا يمكن الحديث على سيدي عثمان دون ذكر 'لالة خديجة'، فهما
متجاوران ويزيد هذا الارتباط في الأغنية التي كنا نتغنى بها في صبانا:
"A lalla
khdija razmakh lbab a nniniy sidi 3tman s was"
أي
ما معناه: "يا لالة خديجة افتحي لنا الباب كي نزور سيدي عثمان نهارا"
هذا الارتباط يمكن تفسيره أولا إما بكون
لالة خديجة زوجة أو قريبة سيدي عثمان إدا افترضنا استقراره بالمنطقة، فحسب
"إدموند دوتي" فالصالحات في غالب الأحيان من أقارب الصلحاء المشهورين[3]، فعلى
مرّ التاريخ حضور النساء الصالحات كان مستمرا وأشهرهن الكاهنة الشهيرة بالجزائر
وزينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين. وثانيا ربما أن هذه السيدة كانت تملك كرامات
كالتنبؤات أو علاج المرضى بوصفات شعبية أو بالكي أو بما يصطلح عليه بالأمازيغية "أَصُوضْ"
وهو طقس تقوم فيه الصالحة ذات البركة بالنفخ مباشرة على المريض أو في إناء الحنّاء
ليستعمل كمرهم لشفاء التقرحات.
هناك رواية لم نتمكن من التأكد من
صحتها تقول أن لالة خديجة من منتسبي زاوية دار الضمانة بمدينة وازان، لكن السؤال
المطروح كيف وصلت هذه السيدة للمنطقة؟ لابد أنها كانت لها علاقة قرابة بأحد شيوخ
هذه الطريقة، فمن هو؟ هل هو سيدي عثمان أم ولي أخر؟ لا يمكننا حاليا الجزم
فالموضوع يتطلب مزيدا من البحث عن وثائق أو روايات أخرى تدعم هذا الافتراض أو ذاك.
لا تزال الذاكرة الجماعية لسكان ميدلت والمناطق المجاورة لها
تحتفظ بصور عن الاحتفال بهذا الموسم، فبعيدا عن ثنائية الحلال والحرام، ما يهمنا
هو الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الحقب التاريخية، فقد عرف
الموسم فترة ازدهاره في الفترة الاستعمارية وحتى بداية الثمانينيات، حيت تقام
الاحتفالات العيساوية وتافراوت (التبوريدة) والحلقة وما يرافق ذلك من رواج اقتصادي
بانتشار باعة الحلويات والمشروبات الغازية وانتعاش النقل من "الفيلاج"
إلى الضريح.
حاليا الضريح مهدم بالكامل وقد توقفت الاحتفالات مند نهاية
ثمانينيات القرن الماضي، لكن يبقى مصير المخطوطات والوثائق، إن وجدت، مجهولا،
وأملنا أن تجد طريقها للعموم حتى تساعد في إضاءة عتمة العديد من الحقب المظلمة من
تاريخ المنطقة.
0 Commentaires